مع استكمال الاستعدادات العسكرية من قبل الجيش السوري وحلفائه لشنّ هجوم واسع لتحرير ما تبقى من محافظة إدلب، المحاذية للحدود مع تركيا، من وجود التنظيمات الإرهابية، التي تجمّعت في هذه المنطقة لا سيما تنظيم جبهة النصرة المصنّف من قبل مجلس الأمن الدولي منظمة إرهابية، وغير المشمول باتفاق خفض التصعيد في أستانة، استنفر الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، وبدأ حملة تهويل منسّقة، بلغت ذروتها في اجتماع مجلس الأمن، تحذّر من مخاطر كارثية على المدنيين في حال تنفيذ العملية العسكرية، وبلغ الأمر حدّ القول إنّ مجزرة وهجرة شاملة للمدنيين ستحصل جراء العملية العسكرية والغارات الجوية.
وتبيّن مستوى التنسيق والتناغم بين مندوبي الولايات المتحدة والدول الأوروبية وبعض الأنظمة الدائرة في فلك التبعية للسياسة الأميركية، في العزف على وتر الحرص على المدنيين، حتى بتنا أمام مشهد وكأنّ العالم فعلاً أمام مجزرة وشيكة سترتكب إذا لم يتمّ منع العملية العسكرية، وسلوك طريق الحلّ السياسي كسبيل أوحد لتلافي استمرار الصراع إلى ما لا نهاية. ولوحظ أنّ هذه الحملة قد سبقتها اتهامات مفبركة وكاذبة للدولة الوطنية السورية بالتحضير لشنّ هجوم بالأسلحة الكيميائية على إدلب، واستنفار عسكري أميركي مصحوب بتهديد مرتفع الوتيرة بشنّ عدوان على سورية إذا شنّت هجوماً بالسلاح الكيميائي!
لكن هل صحيح ما يدّعيه الغرب من حرص على المدنيين، ومن اتهامات للدولة السورية؟ ومن هو الذي يهدّد المدنيين فعلاً والذي ارتكب ويواصل ارتكاب المجازر الوحشية بحقهم؟ وما هي الغايات الحقيقية من وراء هذا التباكي الغربي بزعم الحرص على المدنيين؟
أولاً: من يدقق في مواقف وممارسات الدول الغربية الاستعمارية منذ بدايات الحرب الإرهابية الكونية على سورية، دولة وجيشاً وشعباً وبنى تحتية، يلحظ بأنها لم تحرّك ساكناً لإدانة المجازر التي ارتكبها الإرهابيون بدم بارد، لا بل أنها كانت تسارع إلى تبني اتهامات الإرهابيين للدولة السورية بالوقوف وراء ارتكاب هذه المجازر، وقد جاءت الوقائع في ما بعد لتكشف الفظاعات التي ارتكبتها الجماعات الإرهابية التكفيرية في المناطق التي كانت تسيطر عليها وعمليات الذبح والقتل بحق الأبرياء ومن كانوا يرفضون تأييدها أو الانضمام لصفوفها. ولقد اتضح أنّ المواطنين السوريين كانوا يلجأون إلى مناطق سيطرة الدولة السورية لضمان أمنهم وسلامتهم من بطش الجماعات الإرهابية.
ثانياً: إنّ نفاق الغرب بزعم حرصه على المدنيين يظهر على الملأ وبدون أيّ مساحيق تجميل بصمته المقيم والمستمرّ لا بل ومشاركته في قتل المدنيين وارتكاب أبشع المجازر الوحشية ضدّ الأطفال والنساء والشيوخ وعلى مرأى من العالم أجمع في اليمن وفلسطين المحتلة بوساطة الطائرات والقنابل الأميركية والبريطانية والفرنسية، التي استخدمها جيش الاحتلال الصهيوني ضدّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزة المحاصر، والتي استخدمها التحالف السعودي ضدّ الشعب العربي في اليمن، ولا تزال هذه المجازر ترتكب كلّ يوم وحتى الساعة، ولم نجد صحوة ضمير لدى هذه الدول الغربية، ولا مسارعتها لدعوة مجلس الأمن للاجتماع لوضع حدّ لهذه المجازر، ولا مسارعتها إلى الامتناع عن تزويد كيان الاحتلال الصهيوني والنظام السعودي بأسلحة القتل والتدمير التي تستخدم لقتل الفلسطينيين واليمنيين. طبعاً هذا النفاق والكذب الذي تمارسه الدول الغربية ليس غريباً، فهذه الدول الاستعمارية لها باع وتاريخ طويل في ارتكاب المجازر ضدّ المدنيين في فيتنام والجزائر وسورية والعراق وأفغانستان إلخ…
ثالثاً: إذاً لماذا تدّعي دول الغرب الاستعمارية الحرص على المدنيين في إدلب وما أهدافها الحقيقية من ذلك؟
من الواضح أنّ هذه الدول باتت قلقة من اقتراب لحظة تحقيق سورية وحلفاؤها النصر النهائي على الإرهابيين لما يعنيه ذلك من تكريس هزيمة أهدافها الاستعمارية من هذه الحرب وبالتالي سقوط محاولات تعويم مشروع الهيمنة الغربي على المنطقة والعالم، وإعادة رسم خريطتها وفق المصالح الغربية، ومصلحة كيان الاحتلال الصهيوني في تصفية القضية الفلسطينية. إنّ لحظة إعلان النصر النهائي للدولة الوطنية السورية وحلفائها في محور المقاومة وروسيا سوف يؤدّي إلى إحداث زلزال عربي وإقليمي ودولي يعيد رسم خريطة موازين القوى والمعادلات الدولية في مصلحة الدول المناهضة للهيمنة الاستعمارية الأميركية الغربية والساعية الى إعادة صياغة النظام الدولي والإقليمي على أسس من التعدّدية والتشاركية واحترام القوانين والمواثيق الدولية، وكذلك سينعكس في تبدّل موازين القوى في الصراع العربي الصهيوني لمصلحة محور المقاومة واستطراداً استنهاض خيارات قوى التحرّر العربية وتعزيز ودعم المقاومة والانتفاضة في فلسطين المحتلة.
لذلك كله فإنّ الدول الغربية الاستعمارية تريد من وراء افتعال ضجة بادّعاء وجود خطر يهدّد المدنيين في إدلب في حال حصل الهجوم العسكري، تعطيل الهجوم وحماية الإرهابيين وتمكينهم من التقاط أنفاسهم ورفع معنوياتهم والحفاظ عليهم لإدامة الأزمة وحرب الاستنزاف ضدّ الدولة السورية، وبالتالي تبرير استمرار بقاء قوات الاحتلال الأميركية الغربية في سورية وربط التخلص من الإرهابيين في إدلب وانسحاب القوات الأميركية من شمال وشرق سورية بالحصول على أثمان مقابلة من الدولة السورية، كان قد طرحها المبعوث الأمني الأميركي الذي اجتمع في دمشق مع رئيس مكتب الأمن الوطني اللواء علي مملوك، وتتلخص في الحصول على بنك المعلومات الذي باتت تملكه سورية عن الجماعات الإرهابية، وضمان حصول الشركات الأميركية على استثمارات في حقول النفط والغاز المكتشفة في الشرق السوري، وعدم السماح بأيّ وجود إيراني في جنوب سورية، وعلى الرغم من انّ هذه الأثمان التي تسعى واشنطن للحصول عليها تعكس انخفاض مستوى الطموحات الأميركية، إلا أنها تؤكد في الوقت نفسه التسليم بفشل الأهداف الأميركية بعد نحو سبع سنوات ونصف السنة من الحرب الإرهابية الكونية، والإقرار بانتصار الدولة الوطنية السورية المقاومة برئاسة الرئيس بشار الأسد.
لكن كلّ المؤشرات والمعطيات وموازين القوى المختلة في الميدان لمصلحة الدولة السورية وحلفائها وكذلك التوازن العسكري الاستراتيجي الذي يشكله الحضور العسكري الروسي والإيراني والمقاومة في سورية، إلى جانب تنامي قوة الجيش السوري، في مواجهة القوة الأميركية الغربية، تؤكد بأنّ ما فشلت في بلوغه أميركا والدول الدائرة في فلكها، على مدى سنوات الحرب وفي أصعب الظروف التي واجهتها سورية، لن تستطيع تحقيقه بعدما أصبحت سورية وحلفاؤها في موقع القوة والمنتصر وقاب قوسين من تحقيق النصر النهائي. وأمام تصميم سورية على تحرير كلّ شبر من أرضها ورفض ايّ مساومة على استقلالها وسيادتها وحرية قرارها الوطني ستضطر إدارة العدوان في البيت الأبيض الأميركي إلى التراجع وابتلاع هزيمتها، كما ابتلعت هزائمها في كلّ محطات الحرب من حلب والبادية ودير الزور والحدود السورية العراقية مروراً بالغوطة الشرقية ووصولاً إلى الجنوب السوري، الأكثر أهمية وحساسية بالنسبة لكيان العدو الصهيوني حليف أميركا الاستراتيجي وطفلها المدلل.